الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

كرة الثلج

 

كرة الثلج

 

تتربع على قمم الجبال الشاهقة طبقات وأطنان من الثلوج التي تراكمت عبر أزمنة طويلة، تزين الجبال ببياضها الناصع، حتى كأنها إكليل من الورود البيضاء على هامة الجبل، تزيده جمالاً وبهاءً.

مع جمالها تعتبر المخزون الاستراتيجي الذي تنبع منه الأنهار، فيحيي الله بها الأرض، ويسقي بها الزرع، وتزين بتدفقها المروج والأودية، فتبعث الحياة والبهجة في كل ما تمر به.

هذه الصورة الجميلة التي تلفت الناظر لها؛ لجمالها وروعتها، وعظيم إبداع الخالق سبحانه لها، لم تكن بهذا الجمال لولا ارتفاعها على قمم الجبال، وتلقيها الثلج من السماء بدون أي وسيط يتسبب بتلويثها، ولم تكن بهذا الإحكام لولا التراكم المستمر والمتعاقب من نزول الثلوج، فكل طبقة من الثلوج تأتي لتمتين هذا البناء المحكم.

 هذه الظاهرة الكونية الجميلة تشبه في نقائها وإحكامها وتماسكها الهوية الثقافية التي تتوارثها الأجيال، فصارت عقيدة محكمة يتلقاها الصغير من الكبير، لتبني منه صورة واحدة متضحة المعالم.

        هذه الصورة الجميلة وهذه اللوحة الفنية الرائعة، وهذا البناء المحكم، يمر بأزمات تغير شيء من نظامه  -كما هي سنن الله في الكون - كالتغيرات المناخية التي تتسبب بالانهيارات الثلجية، فيختل شيء من نظام هذا البناء المحكم، وتهز طبقات الجليد، فتنهار أطرافها، لتنزل من ذلك البرج العاجي المرتفع على شكل كرات الثلج.

كرة الثلج تبدء صغيرة ثم تكبر مع كل دورة، فتنزل من محضن الولادة، ومحضن البناء والتلقي - بعد عقود من التراكم والبناء – إلى أودية العطاء، محملة بحمولتها العلمية والقيمية والمهارية، لتمضي مسرعة تدفعها سنن الله في الكون، متناغمة مع الجاذبية والارتفاع والكتلة، فقد ظلت لعقود من الزمن في طبقات التلقي، وتراكم البناء، على أن تبقى خزيناً يتدفق من بين ثناياها الماء الزلال، لكن يشاء الله الحكيم الخبير أن تنزل بكتلتها لتكون جزء من العطاء، في منظر يظنه الناظر كارثة وشراً لكنه خير كبير، فقد احتاجت الأرض إلى كميات أكبر من الماء الذي كان ينساب من قمم الجبال على استحياء.

 ولا يُخرج هذا العطاء الضخم على غير العادة إلا حرارة الفتن، ومطارق الابتلاء، لتحرك هذه الكتل الكبرى الغنية من مكانها، لتنزل مسرعة ملبية نداء السنن الكونية والشرعية معاً، فيعظم الأثر ويعم النفع.

 هذا النزول السريع المفاجئ بقدر ما فيه من البلاء إلا أنه كذلك مليء بالعطاء، ولا يخلو هذا العطاء من العقبات التي تتخطاها تلكم الكرات الثلجية المنحدرة، فتجعل من نزولها الحاد سبباً في نموها السريع، وتجعل من الصخور التي تعثر فيها، سبباً في تعددها وتكاثرها، فتتضخم مرة أخرى، تسلك بعد ذلك دروباً متنوعة، تتبع فيه أثر جريان الأنهار السالفة، مهتدية مقتدية، حتى  تصل في آخر المطاف إلى أودية العطاء، فتكسوها بياضاً يمكث في الأرض، ويسقي جذوراً جديدة، وشرائح عطاء لم تكن لتصل إليها لولا رحلة الاحلال المفاجئة.

قال تعالى : لا تحسبوه شراً

وقال سبحانه : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون  


د.سعد بن دبيجان الشمري

saaad992@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق