الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

ضوابط الانفتاح الثقافي

 

ضوابط الانفتاح الثقافي

 

المعرفة الإنسانية هي نتيجة لأديان ومعارف وتجارب وحضارات متنوعة عبر التاريخ، فكل أمة تضيف من مكونها الثقافي إلى هذا التراكم المعرفي، ما توصلت إليه من حق أو باطل، من فشل أو نجاح، حتى كان هذا التراث الإنساني الذي تتعاطى معه البشرية اليوم، تقبله تارة وترفضه أخرى، تبني عليه تارة وتنقضه أخرى، وتبنى على أنقاضه أشكال أخرى من العلوم والتجارب والخبرات.

ومن أهم الإضافات التي نقلت البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الحق إلى الباطل، ومن الضلال إلى الهداية، ما أضافته الأديان السماوية الصحيحة، فالله I الذي خلق الخلق لم يتركهم سدى، بل شرفهم الله بأن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، حتى ختمت هذه الرسالات بالرسالة الخاتمة، رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أكمل الله به الدين، وأتم به المنة، وأقام به الحجة على العالمين.

فالدين يعتبر أهم مكونات ثقافات الأمم والحضارات، فكل حضارة تهيمن وينتشر نفوذها وقوتها، ينتشر معها دينها ومعتقداتها بالإضافة إلى بقية مكونات الثقافة كاللغة والأخلاق والعادات والتاريخ واللباس وغيرها من المكونات الثقافية؛ فالأمم المغلوبة يستهويها تقليد الأمم الغالبة، والأمم الضعيفة مسلوبة ثقافياً أمام الأمم القوية، فتعظّم لغتها وتاريخها وعاداتها ودينها، حتى تكون مهزومة في معركة الفكر والثقافة قبل هزيمتها في معركة الحرب، بسبب القابلية للهزيمة، ومن ثم قابلية للاستعمار.

ولذلك حينما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتميّز هذه الأمة واستقلالها، واكتفاءها بالهدى والنور الذي شرفت به، فنهى عن التشبه بالكفار، ومشابهتهم فيما يختصون به من دين ، ولغة، ولباس وعادات تخصهم.

 وأكد على أهمية الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، بخلفائه الراشدين، في قوله صلى الله عليه وسلم : "فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ"[1]، والاقتداء بأصحابه من بعده، في قوله صلى الله عليه وسلم : " وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً، قالوا : مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ ؟ قالَ : ما أَنا علَيهِ وأَصحابي"[2]، كما النبي صلى الله عليه وسلمعلى حث على التشبه بالأنبياء قبله في قوله صلى الله عليه وسلم : "ذلكَ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، وهو أفْضَلُ الصِّيَامِ" [3]، وبحوارييهم كما في قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ" [ الصف: 14].

 وسبب النهي عن التشبه بالكفار؛ أن التشبه الظاهر سبب للتشبه في الباطن، ومثله الحث على التشبه بمن يحبهم الله، ومن يحبون الله، لما له من الأثر كبير على باطن الإنسان وسلوكه، يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: " أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة" [4].

ومن هذا الباب نُهى عن الاطلاع على كتب أهل الكتاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب t حينما رأى معه قطعة من التوراة: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. ولو كان موسى حياًّ ما وسعه إلا أن يتبعني"[5]

واستقر عمل أهل العلم في مسألة التعامل مع كتب أهل الكتاب؛ بأن يقبلوا ما وافق الكتاب والسنة، ويردّون ما خالفها، ويتوقفون فيما لم يرد فيه موافقة ومخالفة في الكتاب والسنة[6]، وكان لهذه المنهجية أثر علمي في منهجية التعامل مع الإسرائيليات، وعلى منهجية التعامل مع الوافد الثقافي عند موجة الترجمة في العهد العباسي، وكان له أثر عملي حمى الفاتحين من بقايا أديان الأمم المهزومة، فكانت منهجية الاكتفاء بالوحي، والاستعلاء بالحق، واقية من ثقافات وفلسفات وأديان الأمم التي فتحوا بلادها، بل كان استعلاؤهم واستغناؤهم واكتفاؤهم السبب الأكبر لدخول شعوب كاملة في الإسلام.

ومع هذا الاكتفاء بالوحي، والاستعلاء بالحق إلا أنهم استفادوا من منتجات الحضارات الأخرى، فالحكمة ضالة المؤمن، ولهم قدوة في عمل النبي صلى الله عليه وسلم فقد استفاد من خبرة الفرس في حفر الخندق، واستخدام الخاتم للمراسلات.

ومما سبق يتبين لنا ان التعاطي مع الثقافات الأخرى تعامل معه النبي e بأكثر من منهجية:

الأولى : منهجية المنع التام، كمنعه لعمر بن الخطاب t .

الثانية: منهجية الاستفادة والانتفاع كحفر الخندق، واتخاذ الخاتم.

والجمع بين ذلك، أن المنع العام كان فيما يتعلق فيما له علاقة بمصادر التشريع، ومناهج الاستدلال عند التعامل مع مصادر الوحي، ومثله في التخلق بأخلاقهم والتشبه بهم فيما يخصهم من اللباس والعادات والأخلاق، أما الانتفاع فكيون بقدر مما يحتاجه الإنسان مما هو من المشترك الإنساني الذي ليس له علاقة بمصادر التشريع، أو التشبه بالأخلاق والعادات.

ولذلك كان منهج أهل السنة والجماعة من علم الكلام والمنطق وما ترجم وأدخل على العلوم الإسلامية في عصور الترجمة واضحاً وصارماً، وذلك لعلاقته المباشرة بمصادر التلقي، ومناهج الاستدلال، فكانت معركة فكرية ضخمة بين أهل السنة والمعتزلة، كما في فتنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مع المعتزلة، وموقف ابن تيمية رحمه الله من الأشاعرة والفلاسفة.

أما في العصر الحديث فالمعركة أكثر ضراوة لعدة أسباب منها:

1.   اجتياح الاستعمار لغالب حواضر العلم الإسلامي، في بدايات القرن الماضي، وما ورّثه من أنظمة الحكم والتحاكم، ومضامين التعليم والإعلام.

2.   هيمنة الغرب العسكرية والاقتصادية والسياسية، وتبعية بقية العالم لها، بعد حقبة الاستعمار العسكري.

3.   ثورة وسائل الاتصالات الحديثة، وبداية مرحلة العولمة.

4.   سهولة السفر.

5.   التعليم الأجنبي.

6.   سهولة وسائل التواصل الالكترونية الحديثة.

وهذه الأسباب أنتجت حالات انبهار، وهزيمة ثقافية، وتبعية مذلة للغرب، في تصوراته، وأفكاره، وعاداته، وقيمه، ولغته، وكل مقومات حضارته وثقافته، جعلت شعارها، إن أردنا أن نتقدم، فعلينا أن نأخذ من الغرب كل ما انتجته هذه الحضارة، سواءً كان غثاً أو سميناً، حقاً أو باطلاً، ضاراً أو نافعاً.

والرد على هذا المقولة أن الله سبحانه وتعالى أودع في هذا الكون سنن كونية، وأنزل في الوحي سننه وأوامره الشرعية، فمن سبق وتفوق في استثمار وفهم سنن الله في الكون، فيقتدى به في هذا المجال، ويستفاد منه في هذا الموطن، لأن ذلك من الخلق الذي خلقه الله، ومن فهم سننه الكونية، وما تقدموا إلا بسبب بذلهم للجهد العظيم في استثمار ما أودعه الله سبحانه، فإن سنن الله في الكون لا تحابي أحداً.

أما ما يتعلق بالشرع والوحي وما أمر الله به فهم أبعد الناس عنه، ولم يؤت المسلمون إلا من خلال تخلفهم عن أمر الله؛ بطلب العلم والمعرفة والنظر في الأنفس والآفاق، والضرب في الأرض، فلما ضيعه المسلمون كانت القوة والتقدم من نصيب غيرهم، ولو عاد المسلمون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم لعلموا أنها لا تتعارض مع العلم والمعرفة والأخذ بأسباب القوة في كافة مجالاتها.

أما أن نترك شرع الله وأمره لأن الغرب تفوقوا في أمور الدنيا، بسبب تركهم وتنحيتهم لدينهم الباطل، فهذا من الجهل العظيم، فهم لم ينحّوا دينهم عن الحياة إلا لكونه من معوقات العلم والمعرفة والتقدم وعمارة الأرض، وهذا لا ينطبق على ديننا الحاث على العلم والمعرفة.

 كما أن الغرب لازال يعاني الويلات أخلاقياً واجتماعياً ودينياً بسبب بعده عن الوحي والهدى والحق، حتى وصل على مرحلة البهيمية في بعض مجالات الحياة.

فالاقتداء به في مكامن قوته ونهضته التي لا تعارض محكمات الكتاب والسنة من الأخذ بالأسباب الحسية المشروعة، أما الاقتداء به في مكامن ضعفه وانحرافه وضلال وزيغ وحمق.

ومن المؤسف أنه عند الحديث عن الانفتاح الثقافي، ينحصر الحديث غالباً حول أوجه استفادتنا من الآخر، ولا يُتطرق للحديث عن انفتاح الآخر على ثقافتنا وديننا وقيمنا وأخلاقنا وبقية مكونات ثقافتنا الإسلامية، فنحن أمة رسالة، وورثة الرسالة الخاتمة، فعلى عواتقنا مسؤولية كبيرة في هدايتهم إلى الحق والهدى والنور، وإنقاذهم من الباطل والضلال والظلمة، لما نملكه من الحق الخالص، المبني على الوحي، ولا يمكن ذلك إلا بانفتاحه علينا، وسهولة وصول رسالتنا إليه، بنفس الأدوات والوسائل التي وصلت إلينا ومن خلالها ثقافتهم وقيمهم.

ولذلك كان من المهم وضع ضوابط تضبط عملية الانفتاح الثقافي:

·     ضوابط تتعلق بالمثقف:

1.   اليقين بصدق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنه.

2.   اليقين بأن ما شرع الله لا يتعارض مع ما خلق.

3.   اليقين أن مصدر الكتاب المسطور القرآن هو مصدر الكتاب المنظور الكون.

4.   الاستعلاء الإيماني المنطلق من رسوخ العقيدة الإسلامية، وصحة تصوراتها للكون والحياة والإنسان.

5.   الاكتفاء بالوحي واليقين أن فيه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته ومعاده.

6.   معرفة منهج أهل السنة في مصادر التلقي، ومناهج الاستدلال.

7.   استحضار مقاصد الدين وكلياته ومحكماته.

8.   الاعتزاز بالهوية الإسلامية والمحافظة عليها.

·     ضوابط تتعلق بعملية الانفتاح:

1.   تفعيل الانفتاح الثقافي الإيجابي، الذي يحمل رسالة الحق إلى الخلق، والانتقال من منطقة المفعولية والتأثر، إلى منطقة الفاعلية والتأثير.

2.   ألا يُكتفى بخطاب الأمة عن خطاب الأمم، فعلى المسلم أمانة كبرى في تبليغ الرسالة فهم حملة الرسالة الخاتمة على نبيها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

3.   أن تكون الاستفادة من المشترك الإنساني النافع، الذي يهدف إلى عمارة الأرض ونفع الخلق، والبعد عما من شأنه نشر الفساد في الأرض.

4.   ألا يكون ثمت تعارض بين مضامين المثاقفة والدين الإسلامي الحنيف.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


د. سعد بن دبيجان الشمري

saaad992@gmail.com



[1]رواه أبوداود 4607

[2] رواه الترمذي 2641

[3] رواه البخاري (1976)

 [4]اقتضاء الصراط المستقيم (1/221)

[5] رواه أحمد (14736)، وحسنه الألباني في " إرواء الغليل " (6/34) .

[6]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق