الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

تمكين جيل التمكين

 

تمكين جيل التمكين

 

أحلام النصر والتمكين تداعب خيال كل عامل لدين الله I، فهي كالتنفيس الذي يلجأ إليه المصلح عند تكالب الأعمال، واجتماع الخصوم، فيجعل من أحلام التنعم بعصر التمكين حافزاً له على الثبات والصبر والبذل، وهذا ما كان يمارسه النبي e مع أصحابه عند كل أزمة بوحي من الله وتأييد منه I، وهذا حسن إذا بقي في خانة التنفيس والتحفيز والإلهام، لكن أن ينتقل ذلك إلى خارطة العمل، واتخاذ القرار، وترتيب الأولويات سيتسبب بعثرات خطيرة، منها :

1.   الاستغراق بخيالات النصر، وتجاوز الحد في ذلك، يؤدي بالمصلحين إلى استعجال الخطى لتحصيله، والقفز على المقدمات لنيله، وغياب النظرة السننية التي جعلها الله حاكمة على الخلق، وخصوصاً السنن المتعلقة بالتغيير والتمكين والنصر، فالعجلة داء عضال يعاني منها المصلحون، فيتسبب بالكثير من الأخطاء العملية، التي تئد الأفكار في مهدها، وتحرف المشاريع عن مسارها.

2.   الاستغراق بخيالات النصر والتمكين الوردية، وتجاوز الحد في ذلك، يصيب كثير من المصلحين بالإحباط عند تأخر النصر، ومجرد أن يخطر بباله أن لا ترى عيناه النصر، يصيبه ذلك بإحباط كبير، فربما يحرف البعض عن مساره، ويحول طريقه إلى جهة غير معلومة.

3.   هذا الاستغراق قد يسبب معضلات علمية، فإذا طال الأمد، وربط النصر بحياة جيل من الأجيال، ولم يتحقق ذلك، تبدأ حينئذ المراجعات، والتراجعات، وتغيير الحقائب والقبعات، والحكم على التجربة بالفشل، وانسداد الأفق، وعدم الجدوى، لكن المراجعات التي تعالج الخطأ العلمي أو العملي ، المبني على البحث العلمي، والرأي الشوري محمود،  لكن أن يكون المحرك لهذه التراجعات طول الأمد، وتأخر النصر فهذا المعيب.

4.   الاستغراق بأحلام اليقظة، والتجول في رؤى الحالمين، تورث عند البعض تخففاً من حمل الرسالة، واستثقالاً للمبادئ، وربما اتهمها بأنها سبب التأخر والفشل، ولسان حاله أن التخفف منها سيسهل الخطى، لتحقيق حلم النصر القريب!

5.   ومما يورثه هذا الاستغراق، الظن بقصر عمر الطغاة، وقصر وقت الاستضعاف، مع أن النظر في تاريخ الأنبياء والرسل يدل على أن الطغيان يتوارث، كما يتوارث الإصلاح والصبر عليه، وكما يتوارث الثبات مع تحمل الأذى فيه،  فالسجال سجال بين أجيال متعاقبة، وليس محدوداً في معركة بين جيلين، إن استبطأ جيل النصر، قدم التنازلات حتى يحصل العاجل من ثمرته، وكأن نهاية عمره هي نهاية وقت المعركة!

6.   وأسوء تطبيقات هذا الاستغراق، الظن بأن النصر والتمكين لأفراد الأمة، أو طوائف منها، فكل فرد، وكل طائفة، يظن أنه هو الأمة الموعودة بالنصر والتمكين، دون غيره من الناس، ويغفل أن الوعد الرباني لمجموع الأمة وليس لطوائف منها، أو أفرد منها، فما أنت إلا لبنة، هذا البناء، وجزء صغير منه، وبعض أجزاء البناء يكون تحت الأرض ولا يرى النور، لكنه هو الأساس وإن لم يره أحد.

ولو نظرنا إلى حال المصلحين من أنبياء الله ورسله وأتباعهم لوجدنا كثيراً منهم لم تكتحل عيناه برؤية النصر والتمكين، فمنهم من يبعث ومعه الرجل والرجلان، ومنهم من يبعث وليس معه أحد، ومنهم من تتعاقب أجيالهم في حرب أعداء الله ورسله، ولا يكون التمكين للجيل الأول منهم، فموسى وهارون عليهما السلام توفاهما الله في التيه، على مشارف بيت المقدس، ويحيى وزكريا قتلا على يدي اليهود، وخلق من أصحاب رسول الله e نالوا الشهادة ولم تكتحل أعينهم بالفتوحات، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وقبلهم أشرف الخلق رسول الله e مات ولم يشبع من خبز الشعير كما تقول عائشة، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي، ولم تر عينه الشريفة كنوز كسرى وقيصر التي وعد بها أصحابه، وهي تحثى بين يدي الفاروق عمر بن الخطاب t.

نعم قد لا نكون جيل النصر، وقد لا نعيش ما تخيلته أذهاننا من أجواء النصر واحتفالاته، لكن اليقين أننا – بإذن الله إن أخلصنا النية، واتبعنا سنن الله الشرعية، وتماشينا مع السنن الكونية-  صناع هذا الجيل، فنكون من جيل التهيئة الصانع والممهد لجيل التمكين، الذي ينصر الله به دينه، ويعلي كلمته، وسنكون – بإذن الله - شركاء لهم في الأجر، وممن ادخر الله له أجره كاملاً في دار الخلود.

فهذا صلاح الدين الأيوبي كان ثمرة جهود كبيرة ممن سبقه من الزنكيين، ومن رباه من أهل العلم والدعاة، فنال شرف الفتح، فشاركوه الأجر بإذن الله، وإن لم تكتحل أعينهم به، وقد أحسن ماجد عرسان الكيلاني في كتابه هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس، بعرض أثر الجيل السابق لجيل النصر، في تهيئة بيئة النصر، وتربية رجاله.

فتغيير نظرتنا من جيل النصر إلى تهيئة جيله، ومن جيل التمكين إلى تمكين جيل التمكين، سيعيننا ذلك على التركيز، والبعد عن العجلة، والاهتمام بالمؤثر بعيد الأجل من الأعمال، وسيورث ذلك في قلوبنا ثباتاً وطمأنينة، تجعلنا نفكر بهدوء، ونعمل بروية وتؤدة، ونركز على المحكمات، وبناء الأفراد، وسيكون لذلك أثر كبير على ثباتنا على أمر الله، وسعة في صدورنا لإخواننا، لأننا انتقلنا من طلب العاجل والتزاحم عليه، إلى النظر الاستراتيجي الواسع والبعيد. 

صاحبي إن طال الطريق ولم يتحقق حلمك ومبتغاك، فتذكر أنك مطالب بالسير على الصراط المستقيم، مهتدياً بهدى الله، الذي أنعم به على النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فبمجرد السير والثبات عليه فقد وصلت، وإن لم تصل إلى ما تريد وقوعه في الدنيا القصيرة، وعمرك الأقصر، لأنك ستصل بإذن الله إلى مراد الله ورضوانه.


د. سعد بن دبيجان الشمري

saaad992@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق