الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

الكيانات التربوية

 

الكيانات التربوية

من طبيعة النفس الإنسانية أنها لا تعيش إلا ضمن كيانات متنوعة، تنسجم معها وتتكامل معها، وتتبادل معها الحقوق والواجبات، لتتحقق العبودية لله، وعمارة الأرض بما يرضي الله I، وسنعرض في هذه الورقة لهذه الكيانات التربوية، وما يميزها حتى نستطيع توظيفها لتحقيق مقاصد التربية.

·     أولاً: الكيانات الفطرية:

الكيانات الفطرية أو الكيانات الطبيعية هي تلكم الكيانات التي فُطر الإنسان وخُلق ليجدها محيطة به بلا تكلف منه في بنائها أو تجميعها أو تحفيزها، لكونها منسجمة معه بأصل الفطرة، فتجدها متوائمة معه بلا تكلف، متعايشة معه بتلقائية، بل إن مجرد الانعزال عنها ومحاولة الانفكاك منها يشكل خطراً وثغرة اجتماعية سيكون لها آثارها على المجتمع.

§     من ميزات هذه الكيانات:

1.   أن الرسالة التربوية تنتقل بينها بانسيابية وتلقائية وبلا تكلف.

2.   وأن الرسالة التربوية تصلها في أي وقت وعلى أي حال، فلا يهددها انقطاع، أو تعثر.

3.   وأنها يُؤرز إليها عند الأزمات، بل تشتد أواصر التعاون بينها كلما صعبت الحياة، وزادت كلفتها.

4.   ومن ميزاتها أنها قليلة الكلفة المادية، وربما كانت كلفتها صفرية؛ لأنها متقاربة ومتداخلة بصورة كبيرة، مما يقلل كلفتها المادية.

5.   كذلك هي بسيطة وبعيدة عن التعقيدات البيروقراطية، والاشتراطات المؤسسية، لوضوح علاقتها الطبيعية، فهي لا تحتاج لتلكم التصاريح والرخص والتنظيمات الإدارية، لكونها تُفعل العلاقات الاجتماعية التراحمية التكافلية التي تغنيها عن ذلك كله.

§     ومن هذه الكيانات:

1.   كيان الأسرة المكون من الزوج والزوجة والأبناء، وهي اللبنة الأولى في بناء الكيان التربوي، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [ النحل: 72] فهذه اللبنة هي مادة المجتمع الأولى، وهي ركنه الذي يبنى عليه كل مجتمع، وكلما كان بناؤه متيناً محكماً، انعكس ذلك على بناء المجتمع وإحكامه، لذلك حرص الأنبياء عليهم السلام على هذا الكيان، دعوة وتعليماً ووصيةً، لعلمهم أنه الكيان الذي يبنى عليه غيره، قال الله U : (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[البقرة:132].

2.   كيان العائلة المكون من الأسرة الصغيرة، مع أسرة الأعمام والأخوال والأصهار، وبقية ذوي الأرحام، قال الله U (.. وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[النور:61] إذاً فالأسرة والعائلة تتجاوز المكون الأسري الصغير، لتشمل العائلة الأكبر، لذا كانت لهم هذه الأحكام الخاصة، وشملتهم أحكام المحرمية، وحث النبي e على صلتهم: " الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ مَن وصَلَنِي وصَلَهُ اللَّهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ"[1]، وبين أثر صلتهم على العبد بقوله: " مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ عليه رِزْقُهُ، أوْ يُنْسَأَ في أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[2]

3.   العائلة الكبيرة أو القبيلة:

قال الله U مبيناً مكانة العائلة الكبيرة والقبيلة، والحكمة من وجودها في قوله U :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجر:13]، كما أن النبي e استثمر هذا المكون، فراسل القبائل، وأكرم زعماءها، وصاهر بعضها، ووظف أصحابه من بعده هذا المكون في الفتوحات، فقال خالد بن الوليد t في معركة اليمامة: "أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتَى" فتميزت كل قبيلة في صفوفها وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، فما كان من القبائل إلا بذل وسعها حتى لا تجلب لنفسها مذمة إتيان العدو من خلالها، وأخبر النبي e أن هذا المكون القبلي باقٍ إلى قيام الساعة، حينما أخبر بقوله : " أشد أمتي على الدجال بنو تميم"[3]، فأخبر أن المكون القبلي متواجد بمسمياته القديمة، إلا أن بنو بتميم كان لهم هذا الفضل على غيرهم.

4.   الجوار وجماعة المسجد، وهو كيان فطري طبيعي يتجاوز علاقات النسب والصهر، إلى أهل الجوار، فقد ذكرهم الله سبحانه ضمن من حث على الإحسان إليهم، في قوله U : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورً)[النساء:30] وقال النبي e: "ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ"[4]

هذه هي الكيانات الفطرية الطبيعية التي تصلها رسالتنا التربوية، ونتلقاها من خلالها كذلك، فمن المهم تصورها وتصور دورها ومكانتها وأهميتها في المجتمع.

·     ثانياً: الكيانات التعليمية:

النوع الثني من الكيانات الحاملة للرسالة التربوية هي الكيانات التعليمية، بمراحلها المتنوعة، فغالب وزارات التعليم كان اسمها وزارة التربية والتعليم، إذاً فالمكون والمضمون التربوي حاضر في بيئاتها التعليمية، ومناهجها التعليمية، وكذلك مخرجاتها التعليمية، من الروضات إلى الجامعات، في جميع التخصصات.

1.   من ميزات هذا الكيان اجتماع أصحاب المرحلة والعمر الواحد في أماكن مخصصة يوجه لها خطاب تناسب مع مرحلتها العمرية، ويراعى فيها ما يناسبها وما تحتاجه.

2.   من ميزاتها كذلك أنها لا يتخلف عن غالب مراحلها أحد من شرائح المجتمع، فالرسالة التربوية إن أعطيت حقها من الاتقان والاحكام ستصل لغالب الشريحة المستهدفة من المجتمع.

3.   مجانيتها بسبب الدعم الحكومي الراعي للتعليم، والمطور له، فمخرجاته مهمة في معرفة مستويات الدول، ومكانتها في العلم والمعرفة، ومن السهولة من خلالها استشراف واقعها في هذه المجالات بناء على مخرجاتها التعليمية.

4.   ومن أهم مميزاتها كون الكوادر الفاعلة في هذا الكيان من أصحاب التخصص الدقيق في التربية، فهي ميدانهم الأكثر حضوراً، والأكثر مباشرة لتخصصاتهم، لذلك هم أقدر الناس على فهم رسالتها، ومضامينها، ونظرياتها.

5.   ومما يميزها طول مدتها على مستوى اليوم، وعلى مستوى الأعوام، فالطالب يجلس ثلث يومه على مقاعد الدراسة، ويقضي زهرة شبابه متنقلاً بين مراحلها.

6.   ويميزها أكثر أنها تستقبل أبناءنا في سنيهم الأولى، سنوات التربية المبكرة، وهي أهم مراحل التربية والتنشئة.

لذلك كان على كل مربي ومربية، وكل من صمد لبناء الجيل أن يعتني بهذا المكون، فرداً كان أو دولة، فبه تتسامى الأمة على غيره، وبه تتفاخر، وبمخرجاته تتميز عن غيرها.

·     ثالثاً: الكيانات الوظيفية:

أقصد بالكيانات الوظيفية هي الكيانات التي تجمع عدداً كبيراً من العاملين – الموظفين – فاجتماعهم في نفس العمل، ونفس المقر يجعلهم كياناً يستحق أن يوجه إليه تربية خاصة تليق به، وقد عُني الباحثون بمثل هذه الشريحة، وألف فيها الكثير تحت مسميات أخلاقيات العمل، وأخلاقيات المهنة، وكذلك صنع لأجلها الكثير من المناشط تحت مسمى المسؤولية المجتمعية، فهي تستهدف المجتمع، لكنها بالدرجة الأولى تستهدف مجتمعها المحلي، وأسر موظفيها.

المجتمعات والكيانات الوظيفي بكافة أنواعها، كيان تربوي ضخم حتى لم تظهر على السطح ملامح المضامين التربوية الخاصة به، لكنها تتضح في تفاصيل العملية الوظيفية، من جانب العناية بالموظفين وشؤونهم، وما يحتاجه من عناية وتوجيه وتدريب وتثقيف، ولازال هذا الكيان بحاجة لجهود أكبر توجه إليه، حتى يعتنى به بشكل يليق بضامته وأهميته، وتنوع شرائحه.

 

 

·     رابعاً: الكيانات الافتراضية:

في العقود المتأخرة مع تطور وسائل الاتصال الحديثة، وطفرة مواقع التواصل، تكون مجتمعات افتراضية كثيرة، تقوم على علاقات الصداقة كالفيس بوك، أو علاقات متابعة كتويتر، أو يكون الرابط صورة أو مقطع فيديو كالإنستغرام واليوتيوب، وتحمل في طياتها مضامين كثيرة مؤثرة على تربية الفرد.

ومنها ما تكون العلاقة فيه قائمة على العلاقة الشخصية من خلال رقم الهاتف كالواتسأب والتلغرام وشبيهاتها، ومن خلالها تتكون مجموعات افتراضية تضم العديد من الأشخاص بمختلف الأماكن لأغراض متنوعة.

ثم نزلت جائحة كورونا فتحول التواصل الإلكتروني إلى طابع الرسمية بشكل أكثر حينما تحولت إليه الحكومات والجامعات ووزارات التعاليم العالي والتعليم العام، فزاد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي مما أدى إلى زيادة نشاط الكيانات الافتراضية بكافة أشكالها.

ومن ميزات هذا الكيان:

1.   سرعة التفاعل معها، وسرعة إنشاءها، وحيويتها.

2.   في متناول الجميع، لتعاملها مع الهواتف الذكية.

3.   تنوع الوسائط والوسائل المستخدمة فيها، مما يجعل لها جاذبية عالية.

4.   مناسبتها لكل الأعمار، ومختلف الفئات.

5.   تنوع منطلقاتها وفلسفاتها مما يجعلها تلبي الكثير من الاحتياجات والرغبات.

6.   مجانية غالبها، فهي قليلة الكلفة، فتصل ليد كافة طبقات المجتمع.

وفي الختام، جميع هذه الكيانات فرضت نفسها على أرض الواقع، وصارت مؤثرة بشكل كبير جداً، مما يتحتم على المربين والمربيات العناية بها، وفهم فلسفتها وتعلم أدواتها واستهدافها ببرامج ومضامين تتناسب معها.

فعلى حامل الرسالة التربوية أن يفقه هذا التنوع في الكيانات، ليتعامل مع كل كيان بما يناسبه من أهداف ومضامين ووسائل تتناسب معه، حتى نصل للنتيجة المبتغاة، كما أنه من المهم أن يتخذ منها فرصاً للاستغلال والتسويق والاستثمار، فتنوعها رحمة وفرصة وثراء تربوي نافع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



[1] رواه مسلم(2555)

[2] رواه مسلم(2557)

[3] رواه البخاري (2543).

[4] رواه البخاري (6015).



د. سعد بن دبيجان الشمري

saaad992@gmail.com


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق