الثلاثاء، 12 سبتمبر 2023

التوازن الثقافي

 

التوازن الثقافي


التوازن من سنن الله في الكون، قال U: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، قال الطبري رحمه الله " إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدرناه وقضيناه"[1]،  وهذا القدر شامل لكل مناحي الحياة، فالمطر لا ينزل إلا بقدر معلوم قال U: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ﴾[المؤمنون:18]، والرزق لا ينزل إلا بقدر معلوم قال U: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾[الشورى:27] وقال U : ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ [لحجر:21] بل إن حركة الأكوان وأفلاكها موزونة مقدرة بقدر بحيث لا تختل ولا تتقدم ولا تتأخر ولا تزيد ولا تنقص، قال U : ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[يس:40] وهذا التقدير الدقيق لا يكون إلا من عليم حكيم قال U: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [لأنعام:96]. ولذلك وضع الله الموازين التي تحفظ لهذا الكون اتزانه، قال U: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾[الرحمن:7،8].

وكما أن التوازن سنة من سنن الله في خلقه، كذلك هي سنة مطردة في شرعه وأمره U، فعلم الله وحكمته كما أنها شملت أفعاله وتدبيره وخلقه، فهي كذلك شملت أمره وتشريعه، ولذلك وضع الله الموازين، وأمر بالعدل، قال U :﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾[الرحمن:9].

بل جعل الله سبحانه أحد أهم صفات دينه الذي أنزله على نبيه e الاتزان فقال U : ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾[الأنعام:161]، فقد وصف دينه بكونها ديناً قيماً، ووصف صراطه بالاستقامة، والاستقامة شكل من أشكال الاتزان، قال U ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْـمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْـمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾[الفاتحة:7].

كما جعل هذه الأمة أمة وسطاً باتزانها وعدلها، فهي بتلك الصفة تستحق مقام الشهادة على الأمم، فقال U: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]

ولذلك اتسمت الثقافة الإسلامية بالتوازن، حتى صارت خصيصة من خصائصها وسمة من سماتها التي تميزها عن غيرها من الثقافات، وللتوازن الثقافي عدة أشكال وصور، نعرض لها من خلال عرض أمثلتها وصورها في الثقافة الإسلامية:

·     التوازن بين الدنيا والآخرة.

من التوازنات المهمة التي ميزت الثقافة الإسلامية، التوازن بين الدنيا والآخرة، بإنزال كل واحدة منها في مكانها المناسب لها، والذي ينطلق من حقيقتها ومكانتها التي أنزلها الله إياها، قال الله U : ﴿وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]، قال ابن جرير رحمه الله: "وإن الدار الآخرة لفيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها"[2]، ولذلك استحقت أن تكون لها المركزية والهيمنة على الحياة الدنيا، بعكس المفهوم الغربي للحياة الذي يجعل من الحياة الدنيا أحد مركزيات فكرها المادي.

ومركزية الحياة الآخرة في الثقافة الإسلامية تعين المسلم على عمارة الأرض بما يرضي الله I، وأن عمارة الدنيا هي مزرعة ثمارها ونتاجها يناله المسلم في الآخرة، كما من المهم ألا تؤثر مركزية الحياة الآخرة على القيام بعمارة الأرض في الدنيا، قال الله U : ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77]

·     التوازن بين الفرد والجماعة.

اختلفت ثقافات العالم بين التركيز على الفرد أو الجماعة، فقامت الفكرة الشيوعية على تعظيم الجماعة على الفرد، وإلغاء الملكية الفردية، بعكس الحضارة الغربية القائمة على تعظيم الفرد، وتعظيم المصلحة الفردية على حساب المجتمع، بينما تجد أن الثقافة الإسلامية في كافة مجالاتها متوازنة بين الفرد والمجتمع، فقد شرع الله عبادات فردية ذاتية كأعمال القلوب، والذكر، وغيرها من شعب الإيمان، وشرع عبادات جماعية لا تتم إلا بتشارك الجماعة وقيامهم بها جميعاً، كصلاة الجمعة والجماعة، والحج، وفي باب الحقوق والواجبات بين الله I وبين رسوله e الحقوق والواجبات على الفرد وعلى المجتمع، فقال النبي e: " إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا، فأعط كلَّ ذي حق حقه"[3]، حتى نعطي كل ذي حق حقه بتوازن وعدل.

·     التوازن في بناء الشخصية الإسلامية.

أما في بناء الشخصية الإسلامية فتميزت الثقافة الإسلامية بتوازنها في بناء جميع المجالات، فشملت المجال العقلي والمعرفي، والمجال السلوكي والأخلاقي، والمجال التعبدي، والمجال البدني والصحي، وغيرها من المجالات، ومن الأمثلة على ذلك:

1.   في المجال العلمي والمعرفي كان أول آية نزلت في كتاب الله، وأول وحي سمعه رسول الله e : هي قول الله U ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]، وبين الله مكانة أهل العلم فقال: ﴿..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾[الزمر: 9] والنصوص في الحث على العلم والمعرفة، والسير في الأرض، وبيان مكانة أهل العلم في الأمة، أكثر وأشهر من أن تذكر وتبين.

2.   في المجال السلوكي والأخلاقي يوضحه بجلاء ما ذكره النبي e من أنها أحد مقاصد بعثته e فقال: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[4] وقال e : " أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً"[5]، وقوله e: "إنَّ المُؤمِنَ ليُدرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ الصَّائمِ القائمِ"[6]

3.   وفي المجال العبادي ظهر التوازن بين العبادات الذاتية اللازمة كالذكر والصلاة، والعبادات المتعدية كالحسبة والجهاد والدعوة والصدقة، وظهر التوازن في تنوع العبادات فمنها ما هو بدني كالصيام، ومنها ما هو مالي كالزكاة، ومنها ما جمع فيه بين المالي والبدني كالحج.

وفي كافة مجالات الحياة ظهر التوازن والشمول في بناء الشخصية الإسلامية، حتى كانت شخصية متكاملة، سوية، تستحق الاستخلاف في الأرض، وتستحق تحمل الأمانة، وتستحق مكانة الشهادة على الأمم.

 

·     التوزان بين الأصالة والمعاصرة.

أحد أهم تجليات التوازن المنهجية، التوازن بين الأصالة في الرجوع للكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، والاقتداء بسنة النبي e وسنة الخلفاء الراشدين، والقرون المفضلة، y، من خلال الاعتماد على مصادر التلقي الشرعية، والتعاطي معها بمناهج الاستدلال العلمية المعتبرة، والتوازن في التعاطي مع معطيات العصر، في الاستفادة من العلوم المعاصرة، وتوظيفها فيما يعود على المسلم بالنفع والخير، ويحقق مقصد التعبد لله في عمارة الأرض.

·     ثمار التوازن.

لهذا التوازن الذي تميزت به الثقافة الإسلامية ثمار عديدة منها:

1.   موافقتها للفطرة، وانسجامها مع الخلقة التي خلق الله الناس عليها، لأن مصدرها هو الخالق الفاطر I.

2.   تحقيقها لعمارة الأرض، وفق المفهوم الإسلامي، فالأرض لا تعمر بالماديات فقط، وإنما تعمر بذكر الله U : ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]

3.   موافقة سنن الله في الكون، والانسجام مع سننه في الأنفس والمجتمعات، ومواكبتها والسير في ركابها.

4.   التصور الصحيح للكون والإنسان والحياة وما يثمره هذا التصور من إيمان بالله سبحانه، ومعرفة حقوقه على العباد.

5.   معرفة دور الأمة الحضاري، ومكانتها بين الأمم، فهي الأمة الحاضنة لختام الرسالات، الحاملة لآخر الكتب السماوية، فهي وريثة رسالات الأنبياء عليهم السلام، وهي الأمة الشاهدة على الأمم.

 

إذا فالتوازن الثقافي وثيق الصلة بوسطية هذه الأمة، ووثيق الصلة بإحكام شريعتها المنزلة على نبيها e .

 

                                                                       د. سعد بن دبيجان الشمري
                                                                   saaad992@gmail.com

[1] تفسير الطبري ( 604/ 22)

[2] تفسير الطبري (60/20)

[3] صحيح البخاري رقم: (1867)

[4] مجمع الزوائد للهيثمي (9/18)

[5] صحيح الترغيب (2897)

[6] رواه أبو داود (4798)

ضوابط الانفتاح الثقافي

 

ضوابط الانفتاح الثقافي

 

المعرفة الإنسانية هي نتيجة لأديان ومعارف وتجارب وحضارات متنوعة عبر التاريخ، فكل أمة تضيف من مكونها الثقافي إلى هذا التراكم المعرفي، ما توصلت إليه من حق أو باطل، من فشل أو نجاح، حتى كان هذا التراث الإنساني الذي تتعاطى معه البشرية اليوم، تقبله تارة وترفضه أخرى، تبني عليه تارة وتنقضه أخرى، وتبنى على أنقاضه أشكال أخرى من العلوم والتجارب والخبرات.

ومن أهم الإضافات التي نقلت البشرية من الظلمات إلى النور، ومن الحق إلى الباطل، ومن الضلال إلى الهداية، ما أضافته الأديان السماوية الصحيحة، فالله I الذي خلق الخلق لم يتركهم سدى، بل شرفهم الله بأن أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، حتى ختمت هذه الرسالات بالرسالة الخاتمة، رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أكمل الله به الدين، وأتم به المنة، وأقام به الحجة على العالمين.

فالدين يعتبر أهم مكونات ثقافات الأمم والحضارات، فكل حضارة تهيمن وينتشر نفوذها وقوتها، ينتشر معها دينها ومعتقداتها بالإضافة إلى بقية مكونات الثقافة كاللغة والأخلاق والعادات والتاريخ واللباس وغيرها من المكونات الثقافية؛ فالأمم المغلوبة يستهويها تقليد الأمم الغالبة، والأمم الضعيفة مسلوبة ثقافياً أمام الأمم القوية، فتعظّم لغتها وتاريخها وعاداتها ودينها، حتى تكون مهزومة في معركة الفكر والثقافة قبل هزيمتها في معركة الحرب، بسبب القابلية للهزيمة، ومن ثم قابلية للاستعمار.

ولذلك حينما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم اهتم بتميّز هذه الأمة واستقلالها، واكتفاءها بالهدى والنور الذي شرفت به، فنهى عن التشبه بالكفار، ومشابهتهم فيما يختصون به من دين ، ولغة، ولباس وعادات تخصهم.

 وأكد على أهمية الاقتداء به صلى الله عليه وسلم، بخلفائه الراشدين، في قوله صلى الله عليه وسلم : "فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ"[1]، والاقتداء بأصحابه من بعده، في قوله صلى الله عليه وسلم : " وإنَّ بَني إسرائيل تفرَّقت على ثِنتينِ وسبعينَ ملَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ ملَّةً، كلُّهم في النَّارِ إلَّا ملَّةً واحِدةً، قالوا : مَن هيَ يا رسولَ اللَّهِ ؟ قالَ : ما أَنا علَيهِ وأَصحابي"[2]، كما النبي صلى الله عليه وسلمعلى حث على التشبه بالأنبياء قبله في قوله صلى الله عليه وسلم : "ذلكَ صِيَامُ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، وهو أفْضَلُ الصِّيَامِ" [3]، وبحوارييهم كما في قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ" [ الصف: 14].

 وسبب النهي عن التشبه بالكفار؛ أن التشبه الظاهر سبب للتشبه في الباطن، ومثله الحث على التشبه بمن يحبهم الله، ومن يحبون الله، لما له من الأثر كبير على باطن الإنسان وسلوكه، يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: " أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة" [4].

ومن هذا الباب نُهى عن الاطلاع على كتب أهل الكتاب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب t حينما رأى معه قطعة من التوراة: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاء نقية.. ولو كان موسى حياًّ ما وسعه إلا أن يتبعني"[5]

واستقر عمل أهل العلم في مسألة التعامل مع كتب أهل الكتاب؛ بأن يقبلوا ما وافق الكتاب والسنة، ويردّون ما خالفها، ويتوقفون فيما لم يرد فيه موافقة ومخالفة في الكتاب والسنة[6]، وكان لهذه المنهجية أثر علمي في منهجية التعامل مع الإسرائيليات، وعلى منهجية التعامل مع الوافد الثقافي عند موجة الترجمة في العهد العباسي، وكان له أثر عملي حمى الفاتحين من بقايا أديان الأمم المهزومة، فكانت منهجية الاكتفاء بالوحي، والاستعلاء بالحق، واقية من ثقافات وفلسفات وأديان الأمم التي فتحوا بلادها، بل كان استعلاؤهم واستغناؤهم واكتفاؤهم السبب الأكبر لدخول شعوب كاملة في الإسلام.

ومع هذا الاكتفاء بالوحي، والاستعلاء بالحق إلا أنهم استفادوا من منتجات الحضارات الأخرى، فالحكمة ضالة المؤمن، ولهم قدوة في عمل النبي صلى الله عليه وسلم فقد استفاد من خبرة الفرس في حفر الخندق، واستخدام الخاتم للمراسلات.

ومما سبق يتبين لنا ان التعاطي مع الثقافات الأخرى تعامل معه النبي e بأكثر من منهجية:

الأولى : منهجية المنع التام، كمنعه لعمر بن الخطاب t .

الثانية: منهجية الاستفادة والانتفاع كحفر الخندق، واتخاذ الخاتم.

والجمع بين ذلك، أن المنع العام كان فيما يتعلق فيما له علاقة بمصادر التشريع، ومناهج الاستدلال عند التعامل مع مصادر الوحي، ومثله في التخلق بأخلاقهم والتشبه بهم فيما يخصهم من اللباس والعادات والأخلاق، أما الانتفاع فكيون بقدر مما يحتاجه الإنسان مما هو من المشترك الإنساني الذي ليس له علاقة بمصادر التشريع، أو التشبه بالأخلاق والعادات.

ولذلك كان منهج أهل السنة والجماعة من علم الكلام والمنطق وما ترجم وأدخل على العلوم الإسلامية في عصور الترجمة واضحاً وصارماً، وذلك لعلاقته المباشرة بمصادر التلقي، ومناهج الاستدلال، فكانت معركة فكرية ضخمة بين أهل السنة والمعتزلة، كما في فتنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله مع المعتزلة، وموقف ابن تيمية رحمه الله من الأشاعرة والفلاسفة.

أما في العصر الحديث فالمعركة أكثر ضراوة لعدة أسباب منها:

1.   اجتياح الاستعمار لغالب حواضر العلم الإسلامي، في بدايات القرن الماضي، وما ورّثه من أنظمة الحكم والتحاكم، ومضامين التعليم والإعلام.

2.   هيمنة الغرب العسكرية والاقتصادية والسياسية، وتبعية بقية العالم لها، بعد حقبة الاستعمار العسكري.

3.   ثورة وسائل الاتصالات الحديثة، وبداية مرحلة العولمة.

4.   سهولة السفر.

5.   التعليم الأجنبي.

6.   سهولة وسائل التواصل الالكترونية الحديثة.

وهذه الأسباب أنتجت حالات انبهار، وهزيمة ثقافية، وتبعية مذلة للغرب، في تصوراته، وأفكاره، وعاداته، وقيمه، ولغته، وكل مقومات حضارته وثقافته، جعلت شعارها، إن أردنا أن نتقدم، فعلينا أن نأخذ من الغرب كل ما انتجته هذه الحضارة، سواءً كان غثاً أو سميناً، حقاً أو باطلاً، ضاراً أو نافعاً.

والرد على هذا المقولة أن الله سبحانه وتعالى أودع في هذا الكون سنن كونية، وأنزل في الوحي سننه وأوامره الشرعية، فمن سبق وتفوق في استثمار وفهم سنن الله في الكون، فيقتدى به في هذا المجال، ويستفاد منه في هذا الموطن، لأن ذلك من الخلق الذي خلقه الله، ومن فهم سننه الكونية، وما تقدموا إلا بسبب بذلهم للجهد العظيم في استثمار ما أودعه الله سبحانه، فإن سنن الله في الكون لا تحابي أحداً.

أما ما يتعلق بالشرع والوحي وما أمر الله به فهم أبعد الناس عنه، ولم يؤت المسلمون إلا من خلال تخلفهم عن أمر الله؛ بطلب العلم والمعرفة والنظر في الأنفس والآفاق، والضرب في الأرض، فلما ضيعه المسلمون كانت القوة والتقدم من نصيب غيرهم، ولو عاد المسلمون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم لعلموا أنها لا تتعارض مع العلم والمعرفة والأخذ بأسباب القوة في كافة مجالاتها.

أما أن نترك شرع الله وأمره لأن الغرب تفوقوا في أمور الدنيا، بسبب تركهم وتنحيتهم لدينهم الباطل، فهذا من الجهل العظيم، فهم لم ينحّوا دينهم عن الحياة إلا لكونه من معوقات العلم والمعرفة والتقدم وعمارة الأرض، وهذا لا ينطبق على ديننا الحاث على العلم والمعرفة.

 كما أن الغرب لازال يعاني الويلات أخلاقياً واجتماعياً ودينياً بسبب بعده عن الوحي والهدى والحق، حتى وصل على مرحلة البهيمية في بعض مجالات الحياة.

فالاقتداء به في مكامن قوته ونهضته التي لا تعارض محكمات الكتاب والسنة من الأخذ بالأسباب الحسية المشروعة، أما الاقتداء به في مكامن ضعفه وانحرافه وضلال وزيغ وحمق.

ومن المؤسف أنه عند الحديث عن الانفتاح الثقافي، ينحصر الحديث غالباً حول أوجه استفادتنا من الآخر، ولا يُتطرق للحديث عن انفتاح الآخر على ثقافتنا وديننا وقيمنا وأخلاقنا وبقية مكونات ثقافتنا الإسلامية، فنحن أمة رسالة، وورثة الرسالة الخاتمة، فعلى عواتقنا مسؤولية كبيرة في هدايتهم إلى الحق والهدى والنور، وإنقاذهم من الباطل والضلال والظلمة، لما نملكه من الحق الخالص، المبني على الوحي، ولا يمكن ذلك إلا بانفتاحه علينا، وسهولة وصول رسالتنا إليه، بنفس الأدوات والوسائل التي وصلت إلينا ومن خلالها ثقافتهم وقيمهم.

ولذلك كان من المهم وضع ضوابط تضبط عملية الانفتاح الثقافي:

·     ضوابط تتعلق بالمثقف:

1.   اليقين بصدق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً وسنه.

2.   اليقين بأن ما شرع الله لا يتعارض مع ما خلق.

3.   اليقين أن مصدر الكتاب المسطور القرآن هو مصدر الكتاب المنظور الكون.

4.   الاستعلاء الإيماني المنطلق من رسوخ العقيدة الإسلامية، وصحة تصوراتها للكون والحياة والإنسان.

5.   الاكتفاء بالوحي واليقين أن فيه كل ما يحتاجه الإنسان في حياته ومعاده.

6.   معرفة منهج أهل السنة في مصادر التلقي، ومناهج الاستدلال.

7.   استحضار مقاصد الدين وكلياته ومحكماته.

8.   الاعتزاز بالهوية الإسلامية والمحافظة عليها.

·     ضوابط تتعلق بعملية الانفتاح:

1.   تفعيل الانفتاح الثقافي الإيجابي، الذي يحمل رسالة الحق إلى الخلق، والانتقال من منطقة المفعولية والتأثر، إلى منطقة الفاعلية والتأثير.

2.   ألا يُكتفى بخطاب الأمة عن خطاب الأمم، فعلى المسلم أمانة كبرى في تبليغ الرسالة فهم حملة الرسالة الخاتمة على نبيها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

3.   أن تكون الاستفادة من المشترك الإنساني النافع، الذي يهدف إلى عمارة الأرض ونفع الخلق، والبعد عما من شأنه نشر الفساد في الأرض.

4.   ألا يكون ثمت تعارض بين مضامين المثاقفة والدين الإسلامي الحنيف.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


د. سعد بن دبيجان الشمري

saaad992@gmail.com



[1]رواه أبوداود 4607

[2] رواه الترمذي 2641

[3] رواه البخاري (1976)

 [4]اقتضاء الصراط المستقيم (1/221)

[5] رواه أحمد (14736)، وحسنه الألباني في " إرواء الغليل " (6/34) .

[6]

الكيانات التربوية

 

الكيانات التربوية

من طبيعة النفس الإنسانية أنها لا تعيش إلا ضمن كيانات متنوعة، تنسجم معها وتتكامل معها، وتتبادل معها الحقوق والواجبات، لتتحقق العبودية لله، وعمارة الأرض بما يرضي الله I، وسنعرض في هذه الورقة لهذه الكيانات التربوية، وما يميزها حتى نستطيع توظيفها لتحقيق مقاصد التربية.

·     أولاً: الكيانات الفطرية:

الكيانات الفطرية أو الكيانات الطبيعية هي تلكم الكيانات التي فُطر الإنسان وخُلق ليجدها محيطة به بلا تكلف منه في بنائها أو تجميعها أو تحفيزها، لكونها منسجمة معه بأصل الفطرة، فتجدها متوائمة معه بلا تكلف، متعايشة معه بتلقائية، بل إن مجرد الانعزال عنها ومحاولة الانفكاك منها يشكل خطراً وثغرة اجتماعية سيكون لها آثارها على المجتمع.

§     من ميزات هذه الكيانات:

1.   أن الرسالة التربوية تنتقل بينها بانسيابية وتلقائية وبلا تكلف.

2.   وأن الرسالة التربوية تصلها في أي وقت وعلى أي حال، فلا يهددها انقطاع، أو تعثر.

3.   وأنها يُؤرز إليها عند الأزمات، بل تشتد أواصر التعاون بينها كلما صعبت الحياة، وزادت كلفتها.

4.   ومن ميزاتها أنها قليلة الكلفة المادية، وربما كانت كلفتها صفرية؛ لأنها متقاربة ومتداخلة بصورة كبيرة، مما يقلل كلفتها المادية.

5.   كذلك هي بسيطة وبعيدة عن التعقيدات البيروقراطية، والاشتراطات المؤسسية، لوضوح علاقتها الطبيعية، فهي لا تحتاج لتلكم التصاريح والرخص والتنظيمات الإدارية، لكونها تُفعل العلاقات الاجتماعية التراحمية التكافلية التي تغنيها عن ذلك كله.

§     ومن هذه الكيانات:

1.   كيان الأسرة المكون من الزوج والزوجة والأبناء، وهي اللبنة الأولى في بناء الكيان التربوي، قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [ النحل: 72] فهذه اللبنة هي مادة المجتمع الأولى، وهي ركنه الذي يبنى عليه كل مجتمع، وكلما كان بناؤه متيناً محكماً، انعكس ذلك على بناء المجتمع وإحكامه، لذلك حرص الأنبياء عليهم السلام على هذا الكيان، دعوة وتعليماً ووصيةً، لعلمهم أنه الكيان الذي يبنى عليه غيره، قال الله U : (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[البقرة:132].

2.   كيان العائلة المكون من الأسرة الصغيرة، مع أسرة الأعمام والأخوال والأصهار، وبقية ذوي الأرحام، قال الله U (.. وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[النور:61] إذاً فالأسرة والعائلة تتجاوز المكون الأسري الصغير، لتشمل العائلة الأكبر، لذا كانت لهم هذه الأحكام الخاصة، وشملتهم أحكام المحرمية، وحث النبي e على صلتهم: " الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ مَن وصَلَنِي وصَلَهُ اللَّهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ"[1]، وبين أثر صلتهم على العبد بقوله: " مَن سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ عليه رِزْقُهُ، أوْ يُنْسَأَ في أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[2]

3.   العائلة الكبيرة أو القبيلة:

قال الله U مبيناً مكانة العائلة الكبيرة والقبيلة، والحكمة من وجودها في قوله U :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجر:13]، كما أن النبي e استثمر هذا المكون، فراسل القبائل، وأكرم زعماءها، وصاهر بعضها، ووظف أصحابه من بعده هذا المكون في الفتوحات، فقال خالد بن الوليد t في معركة اليمامة: "أيها الناس تمايزوا حتى نعرف من أين نؤتَى" فتميزت كل قبيلة في صفوفها وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة، وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس، فما كان من القبائل إلا بذل وسعها حتى لا تجلب لنفسها مذمة إتيان العدو من خلالها، وأخبر النبي e أن هذا المكون القبلي باقٍ إلى قيام الساعة، حينما أخبر بقوله : " أشد أمتي على الدجال بنو تميم"[3]، فأخبر أن المكون القبلي متواجد بمسمياته القديمة، إلا أن بنو بتميم كان لهم هذا الفضل على غيرهم.

4.   الجوار وجماعة المسجد، وهو كيان فطري طبيعي يتجاوز علاقات النسب والصهر، إلى أهل الجوار، فقد ذكرهم الله سبحانه ضمن من حث على الإحسان إليهم، في قوله U : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورً)[النساء:30] وقال النبي e: "ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ"[4]

هذه هي الكيانات الفطرية الطبيعية التي تصلها رسالتنا التربوية، ونتلقاها من خلالها كذلك، فمن المهم تصورها وتصور دورها ومكانتها وأهميتها في المجتمع.

·     ثانياً: الكيانات التعليمية:

النوع الثني من الكيانات الحاملة للرسالة التربوية هي الكيانات التعليمية، بمراحلها المتنوعة، فغالب وزارات التعليم كان اسمها وزارة التربية والتعليم، إذاً فالمكون والمضمون التربوي حاضر في بيئاتها التعليمية، ومناهجها التعليمية، وكذلك مخرجاتها التعليمية، من الروضات إلى الجامعات، في جميع التخصصات.

1.   من ميزات هذا الكيان اجتماع أصحاب المرحلة والعمر الواحد في أماكن مخصصة يوجه لها خطاب تناسب مع مرحلتها العمرية، ويراعى فيها ما يناسبها وما تحتاجه.

2.   من ميزاتها كذلك أنها لا يتخلف عن غالب مراحلها أحد من شرائح المجتمع، فالرسالة التربوية إن أعطيت حقها من الاتقان والاحكام ستصل لغالب الشريحة المستهدفة من المجتمع.

3.   مجانيتها بسبب الدعم الحكومي الراعي للتعليم، والمطور له، فمخرجاته مهمة في معرفة مستويات الدول، ومكانتها في العلم والمعرفة، ومن السهولة من خلالها استشراف واقعها في هذه المجالات بناء على مخرجاتها التعليمية.

4.   ومن أهم مميزاتها كون الكوادر الفاعلة في هذا الكيان من أصحاب التخصص الدقيق في التربية، فهي ميدانهم الأكثر حضوراً، والأكثر مباشرة لتخصصاتهم، لذلك هم أقدر الناس على فهم رسالتها، ومضامينها، ونظرياتها.

5.   ومما يميزها طول مدتها على مستوى اليوم، وعلى مستوى الأعوام، فالطالب يجلس ثلث يومه على مقاعد الدراسة، ويقضي زهرة شبابه متنقلاً بين مراحلها.

6.   ويميزها أكثر أنها تستقبل أبناءنا في سنيهم الأولى، سنوات التربية المبكرة، وهي أهم مراحل التربية والتنشئة.

لذلك كان على كل مربي ومربية، وكل من صمد لبناء الجيل أن يعتني بهذا المكون، فرداً كان أو دولة، فبه تتسامى الأمة على غيره، وبه تتفاخر، وبمخرجاته تتميز عن غيرها.

·     ثالثاً: الكيانات الوظيفية:

أقصد بالكيانات الوظيفية هي الكيانات التي تجمع عدداً كبيراً من العاملين – الموظفين – فاجتماعهم في نفس العمل، ونفس المقر يجعلهم كياناً يستحق أن يوجه إليه تربية خاصة تليق به، وقد عُني الباحثون بمثل هذه الشريحة، وألف فيها الكثير تحت مسميات أخلاقيات العمل، وأخلاقيات المهنة، وكذلك صنع لأجلها الكثير من المناشط تحت مسمى المسؤولية المجتمعية، فهي تستهدف المجتمع، لكنها بالدرجة الأولى تستهدف مجتمعها المحلي، وأسر موظفيها.

المجتمعات والكيانات الوظيفي بكافة أنواعها، كيان تربوي ضخم حتى لم تظهر على السطح ملامح المضامين التربوية الخاصة به، لكنها تتضح في تفاصيل العملية الوظيفية، من جانب العناية بالموظفين وشؤونهم، وما يحتاجه من عناية وتوجيه وتدريب وتثقيف، ولازال هذا الكيان بحاجة لجهود أكبر توجه إليه، حتى يعتنى به بشكل يليق بضامته وأهميته، وتنوع شرائحه.

 

 

·     رابعاً: الكيانات الافتراضية:

في العقود المتأخرة مع تطور وسائل الاتصال الحديثة، وطفرة مواقع التواصل، تكون مجتمعات افتراضية كثيرة، تقوم على علاقات الصداقة كالفيس بوك، أو علاقات متابعة كتويتر، أو يكون الرابط صورة أو مقطع فيديو كالإنستغرام واليوتيوب، وتحمل في طياتها مضامين كثيرة مؤثرة على تربية الفرد.

ومنها ما تكون العلاقة فيه قائمة على العلاقة الشخصية من خلال رقم الهاتف كالواتسأب والتلغرام وشبيهاتها، ومن خلالها تتكون مجموعات افتراضية تضم العديد من الأشخاص بمختلف الأماكن لأغراض متنوعة.

ثم نزلت جائحة كورونا فتحول التواصل الإلكتروني إلى طابع الرسمية بشكل أكثر حينما تحولت إليه الحكومات والجامعات ووزارات التعاليم العالي والتعليم العام، فزاد الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي مما أدى إلى زيادة نشاط الكيانات الافتراضية بكافة أشكالها.

ومن ميزات هذا الكيان:

1.   سرعة التفاعل معها، وسرعة إنشاءها، وحيويتها.

2.   في متناول الجميع، لتعاملها مع الهواتف الذكية.

3.   تنوع الوسائط والوسائل المستخدمة فيها، مما يجعل لها جاذبية عالية.

4.   مناسبتها لكل الأعمار، ومختلف الفئات.

5.   تنوع منطلقاتها وفلسفاتها مما يجعلها تلبي الكثير من الاحتياجات والرغبات.

6.   مجانية غالبها، فهي قليلة الكلفة، فتصل ليد كافة طبقات المجتمع.

وفي الختام، جميع هذه الكيانات فرضت نفسها على أرض الواقع، وصارت مؤثرة بشكل كبير جداً، مما يتحتم على المربين والمربيات العناية بها، وفهم فلسفتها وتعلم أدواتها واستهدافها ببرامج ومضامين تتناسب معها.

فعلى حامل الرسالة التربوية أن يفقه هذا التنوع في الكيانات، ليتعامل مع كل كيان بما يناسبه من أهداف ومضامين ووسائل تتناسب معه، حتى نصل للنتيجة المبتغاة، كما أنه من المهم أن يتخذ منها فرصاً للاستغلال والتسويق والاستثمار، فتنوعها رحمة وفرصة وثراء تربوي نافع.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



[1] رواه مسلم(2555)

[2] رواه مسلم(2557)

[3] رواه البخاري (2543).

[4] رواه البخاري (6015).



د. سعد بن دبيجان الشمري

saaad992@gmail.com